فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرْيَةٍ منْ لقَائه}.
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، استطرد إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل.
فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: {فيما كانوا فيه يختلفون} [السجدة: 25] معترضات.
وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع {فلا تكن في مرية من لقائه} على الخبر الذي قبله.
وأريد بقوله: {ءاتينا موسى الكتاب} أرسلنا موسى، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر {الكتاب} للتنويه بشأن موسى وليس داخلًا في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر {الكتاب}.
وجملة: {فلا تكن في مرية من لقائه} معترضة وهو اعتراض بالفاء، ومثله وارد كثيرًا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما} الآية في سورة النساء (135).
ويأتي عند قوله تعالى: {هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} في سورة ص (57).
والمرية: الشك والتردد.
وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة، أي لا يكن الشك محيطًا بك ومتمكنًا منك، أي لا تكن ممتريًا في أنك مثله سينالك ما نالَه من قومه.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} [هود: 109]، وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل.
واللقاء: اسم مصدر لَقيَ وهو الغالب في الاستعمال دون لقى الذي هو المصدر القياسي.
واللقاء: مصادفة فاعل هذا الفعل مفعولَه، ويطلق مجازًا على الإصابة كما يقال: لقيت عناء، ولقيت عَرق القربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى.
واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جاريًا على التشبيه البليغ كقوله: هو البدر، أي: من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى: {ولقد استُهْزىء برُسُل من قبلك} [الأنعام: 10] {فصبَروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا}.
[الأنعام: 34]، وقوله: {وإن كادوا لَيَسْتَفزُّونك من الأرض ليُخرجُوك منها وإذًا لا يلبثون خَلْفَك إلا قليلًا سُنَّةَ من قد أرسلنا من قبلك من رُسُلنا} [الإسراء: 76، 77].
هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.
ويجوز أن يكون ضمير {لقائه} عائدًا إلى موسى على معنى: من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه، وتأييده باهتداء بني إسرائيل، فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين.
ويجوز أن يكون ضمير {لقائه} عائدًا إلى الكتاب كما في الكشاف لكن على أن يكون المعنى: فلا تكن في شك من لقاء الكتاب، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقّي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى.
فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم.
ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {فلا تكن} لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد.
وهذا كقوله تعالى: {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس} [الأنعام: 91].
فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن.
وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بيّن، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعَده الله به وحقَّقه له في هذه الآية قبل وقوعه.
قال ابن عطية: وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة.
وضمير النصب في {وجعلناه هدى} يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على {ءاتينا موسى الكتاب} وما بينهما اعتراض.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ (24)}.
أشير إلى ما مَنّ الله به على بني إسرائيل إذ جعل منهم أئمة يهدون بأمر الله والأمر يشمل الوحي بالشريعة لأنه أمر بها، ويشمل الانتصاب للإرشاد فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي آتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم فإن كان المراد من قوله: {بآياتنا يُوقنُونَ} دلائل صدق موسى عليه السلام، فالمعنى: أنهم صبروا على مشاق التكليف والخروج بهم من أرض مصر وما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد وتيههم في البرية أربعين سنة وتدبروا في الآيات ونظروا حتى أيقنوا.
وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها مُعجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر.
فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي: فوضع اليهودي يده على آية الرجم، أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الراوي آية مشاكلة لكلام القرآن.
وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أئمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم.
وتقديم {بآياتنا} على {يوقنون} للاهتمام بالآيات.
وقرأ الجمهور {لَمَّا صَبَروا} بتشديد الميم وهي {لمّا} التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية أي: جعلناهم أئمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل وما المصدرية أي جعلناهم أئمة لأجل صبرهم وإيقانهم.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ (25)}.
استئناف بياني لأن قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يَهْدُون بأمْرنا} [السجدة: 24] يثير سؤالًا في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهَد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلّين بما يناسب ما قامت به أيمتهم من الهداية فيودّ أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليمًا للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
والخطاب للنبيء والمراد أمتُه تحذيرًا من ذلك وإيماءً إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين.
والفصل: القضاء والحكم، وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من الهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جارٍ في مهيع أصل الشريعة؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].
وليس منه اختلاف أئمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنّف أحدًا، واختلفوا بعد وفاته فلم يعنّف بعضهم بعضًا.
ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافًا بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقًا من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسَنَّته أنبياؤهم، ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم.
وضمير {هو} في قوله: {هو يفصل} ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعًا منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرْيَةٍ منْ لقَائه}.
والإيتاء يختلف، فهناك مَنْ يُؤْتَى بمنهج أو بمعجزة أو بهما معًا، وهناك إيتاء لكتاب موقوت، لزمن موقوت، لقوم موقوتين، وإيتاء آخر لكل الأزمان لكل الأمكنة.
و{الكتاب} [السجدة: 23] أي: التوراة {فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ} [السجدة: 23] أي: في شك {مّن لّقَآئه} [السجدة: 23] لقاء موسى عليه السلام أم لقاء الكتاب؟ إنْ كان لقاء موسى فهو تبشير بأن الله سيجمع بين سيدنا رسول الله وهو حَيٌّ بقانون الأحياء وموسى عليه السلام الميت بقانون الأموات، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان حديث الإسراء والمعراج في أنهما التقيا فيه صادقًا.
لذلك في القرآن آية ينبغي أن نقف عندها، وأن نتأملها بيقظة، وهي قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ من رُّسُلنَآ أَجَعَلْنَا من دُون الرحمن آلهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
هذا تكليف من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنْ يسأل الرسل، فمتى يسألهم؟ فهذه الآية تنبئ بأنهم لابد أنْ يلتقوا. فهذه الآية في لقاء موسى والأخرى في لقاء كل الرسل. إذن: علينا أن نصدق بحديث الإسراء والمعراج، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع بإخوانه من الأنبياء وصلى بهم ودار بينهم حوار.
أما إذا كان المعنى {فَلاَ تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَآئه} [السجدة: 23] أي: لقاء الكتاب، فالتوراة كما قلنا أصابها التحريف والتبديل، وزيدَ عليها وكُذب فيها، لكن سيأتيك يا محمد من أهل التوارة أمثال عبد الله بن سلام مَنْ يعرفون التوراة بلا تحريف ويُسرُّون إليك بها، هؤلاء الذين قال الله فيهم: {مّنْ أَهْل الكتاب أُمَّةٌ قَآئمَةٌ يَتْلُونَ آيَات الله آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
ألم يواجه عبد الله بن سلام قومه من اليهود، فيقول لهم: كيف تُكذَّبون بمحمد، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، فتقولون لهم: لقد أطلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، لقد تجمعتم من شتى البلاد التي اضطهدتكم، وجئتم إلى يثرب تنتظرون مَقْدم هذا النبي، فما بالكم تكذَّبونه؟
وقال القرآن عنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كتَابٌ مّنْ عند الله مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا من قَبْلُ يَسْتَفْتحُونَ عَلَى الذين كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا به} [البقرة: 89].
ومن لقاء الكتاب الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم ما رُوي عن عبد الله بن سلام أنه لما أراد أنْ يؤمن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ- يعني: يتبجحون بالكذب- فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فاسألهم عني يا رسول الله قبل أنْ أعلن إسلامي، فلَما اجتمع اليهود سألهم رسول الله: ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وابن حبرنا. فقال عبد الله: أما وقد قالوا ما قالوا يا رسول الله فأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا: شرُّنا وابن شرنّا.
فقال عبد الله: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْتٌ؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إسْرَائيلَ} [السجدة: 23] أي: جعلنا الكتاب هدى، وهذا دليل على أن منهم مهتدين بدليل شهادة القرآن لهم: {مّنْ أَهْل الكتاب أُمَّةٌ قَآئمَةٌ يَتْلُونَ آيَات الله آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
وقوله تعالى في الآية بعدها: {وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً}.
أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السلطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله؛ لذلك قال سبحانه: {يَهْدُونَ بأَمْرنَا} [السجدة: 24]، فهم لا يصدرون في شيء إلا على هدى من الله.
وفي سورة الأنبياء قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا وَأَوْحَيْنَآ إلَيْهمْ فعْلَ الخيرات وَإقَامَ الصلاة وَإيتَاءَ الزكاة وَكَانُوا لَنَا عَابدينَ} [الأنبياء: 73].
الإيقان: هو الإيمان الذي لا يتزعزع، ولا يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، يعني: أصبحت مسألة مُسلَّمًا بها، مستقرة في النفس.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ (25)}.
تلحظ على أسلوب الآية أنها لم تقل مثلًا: إن ربك يفصل بينهم، إنما استخدمت الضمير المنفصل {هو} ليفيد التأكيد والاختصاص، فالمعنى لا أحدَ يفصل بينهم في القيامة إلا الله، كما قال سبحانه: {لّمَن الملك اليوم للَّه الواحد القهار} [غافر: 16].
إذن: جاءت {هو} لتقطع الشك في وجود الغير.
ولك أنْ تتأمل هذا الضمير في هذه الآيات، ومتى استعمله الأسلوب، يقول تعالى في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {فَإنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] أي: الأصنام {إلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَني فَهُوَ يَهْدين والذي هُوَ يُطْعمُني وَيَسْقين وَإذَا مَرضْتُ فَهُوَ يَشْفين والذي يُميتُني ثُمَّ يُحْيين} [الشعراء: 77-81].
فاستخدم الضمير الدالّ على الاختصاص في الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء، وهذه الأفعال مظنة أنْ يدعيها أحد لنفسه، أما الإحياء والإماتة فهي لله وحده لا يمكن أنْ يدَّعيها أحد؛ لذلك جاءت بدون هذا التوكيد، فهي مسألة مُسلَّم بها لله تعالى.
والشك يأتي في مسألة الفصل يوم القيامة؛ لأن الله تعالى جعل الملائكة المدبرات أمرًا لتدبر أمر الخلق، وقال سبحانه: {لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْن يَدَيْه وَمنْ خَلْفه يَحْفَظُونَهُ منْ أَمْر الله} [الرعد: 11] أي: تبعًا لأمر الله فيه، فقد يفهم البعض أن للملائكة دورًا في الفصل بين الناس يوم القيامة، كما أن لهم مهمة في الدنيا.
وتأمل هنا أن الله تعالى ذكر لفظ الربوبية فقال: {إنَّ رَبَّكَ} [السجدة: 25] ولم يقُلْ: إن الله، والربوبية كما قُلْنا عطاء وتربية، وكأنه سبحانه يقول: اطمئنوا فالذي سيتولَّى مسألة الفصل هو ربكم.
وقوله سبحانه: {فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} [السجدة: 25] لأن الفصل لا يكون إلا عن نزاع، والنزاع لابد أن يكون عن قضية تريد مراجعة من حكم حاكم. اهـ.